الجمعة 18 يوليو 2025 05:50 مساءً
أبي وصديقته أمي
دائمًا ما يكون للمرء أصدقاء مقربون، ورفاق يسمر معهم ويتشارك اللحظات والخطى في الحياة، لكن أبي كان استثناء نادرا. عايش عمره دون أن يُعرف له صديق دائم أو رفيق مقرب، رغم أنه أحب الجميع والجميع أحبوه في قريتنا الصغيرة، التي كبرت اليوم حتى غدت مدينة لا يعرف فيها أحد جاره. كنت أستغرب هذا دائما، وسألته ذات يوم: "يا أبي، لماذا لا أراك تسمر أو تخرج مع صديق مقرب؟"، فابتسم وقال بهدوء: "كل الناس أصحابي، لكن ليس لي صديق سوى أمك".
كان جوابه كافياً ليعرّفني على شكل الحب الذي لا يُشبهه حب. وأضاف لي يومها: "الحب أنواع، وجميع أنواعه عشتها مع أمك. كانت أختي، وصديقتي، وزوجتي، وحبيبتي، وكل شيء. لا أجد راحتي إلا معها، ولا أجد نفسي إلا قربها". كان أبي يتحدث عنها وكأنها وطنه الوحيد، ملاذه وسكنه، وحتى في خريف عمره حين هاجمه الزهايمر وكانت حينئذ قد سبقته إلى الجنة بإذن الله، لم يكن يذكر سواها، ينادي باسمها، ويحدثني عنها كل ليلة، يخبرني أنها تأتيه، تجلس عند قدميه وتدهنهما، وتسامره وتواسيه.
رحلت أمي قبله بتسعة أشهر، وبعدها لم يبقَ في قلبه شيء للدنيا. لم يعش طويلًا بعدها، وكأن بينهما وعدا أن لايطيق الحياة أحدهما دون الآخر. رحلا معا في فصول مختلفة، لكن القصة التي تركاها لنا كانت درسًا في الوفاء، ونموذجا نادرا لحب عميق لا تصنعه الكلمات، بل تصوغه الحياة وتثبته الأرواح الصادقة.
رحمهما الله تعالى واسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة وجمعنا بهما في مستقر رحمته ...آمين